ثانياً : سعادة العالم بين الهم والحقيقة
إن العالم اليوم محروم من الأمن والأمان رغم عظم الوسائل الأمنية المذهلة التي وصل إليها العلم الحديث ورغم الاختراعات الكثيرة التي يولد منها الجديد والجديد كل يوم، ورغم التخطيط الهائل المبني على أسس علمية ونفسية لمحاربة الجريمة بشتى صورها وبالرغم من كله فإن العالم لا زال يبحث عن الأمن والأمان وسط الركام.. بل لد تحولت هذه الوسائل الأمنية نفسها إلى مصدر رعب وفزعٍ وإبادة للجنس البشري.. فما منن يوم يمر – بدون مبالغة- إلا وتسفك فيه دماء وتتمزق هنا وهناك أشلاء وتدمر مصانع وتحرق بيوت وتباد مزارع وتتحطم مدارس.
والعالم يجتمعُ وينفضُّ والدنيا تقوم وتقعد والخبراء يدرسون ويبحثون ويقررون ومع هذا كله فإن الآلاف من البشر يعيشون في حالة من الذعر والرعب والخوف وهم ينتظرون الموت في كل لحظة من لحظات حياتهم لكثرة ما يرونه من إبادة وقتل وإفناء .. وقد أصبحت الدنيا في نظرهم مظلمة بالرغم من كثرة الأضواء.. وأصبحت عليهم ضيقة بعد ما شُرَّدوا وطردوا من ديارهم وأموالهم.
وهكذا حُرِمَ العالمُ من الأمن والأمان على كثرة منظماته وهيئاته ومواثيقه وقوانينه وأصبح الإنسان يفعل بالإنسان ما تخجل الوحوش أن تأتيه في الغابات.
والعالمُ اليوم أيضاً محرومٌ من الرخاء الاقتصادي رغم كثرة الأموال والمصانع واتساع الأسواق واختراع أحسن الوسائل في كل مجالات الاقتصاد.
نعم بالرغم من هذا كله فإن الملايين من البشر لا زالوا يبحثون عن لقمة الخبز ويبذلون ماء وجوههم للحصول على الثوب ويضحون بأرواحهم لتوفير المسكن ومنهم من يموت جوعاً وبرداً ومنهم من يسكن الجبال ويعيش بين القبور.
والمفكرون يبحثون عن الأسباب والخبراء يضعون الحلول ثم لا أسباب ولا حلول .
والعالم اليوم محروم من الطمأنينة النفسية وراحة البال وخلو القلب من الهموم ، والنفس إذا لم تتوافر لها الطمأنينةُ لا تستلذُ العيش ولو كان رخاء اً ولا تستمتعُ بملبس ولو كان فاخراً. ولا تهنأ بمركبٍ ولو كان فارهاً. ولا يمكن أبداً للقصور الشامخة والمراكب الفارهة والفرش الوثيرة والأموال الكثيرة والشهرة الجاه والمناصب والمتاع لا يمكن لهذا كله أن يهب للنفس الطمأنينة الروحية أو السعادة القلبية.
وهذا الحرمان الأمنى والاقتصادي والنفسي عبرّ الله جل وعلا عنه في القرآن بقوله( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) (1).
ولَسوف يظل العالم ُبصفةٍ عامةٍ والعالمُ الإسلاميُّ بصفةٍ خاصةٍ يعيش في هذا الضنك والشقاء.
وسيظل لفح الهاجرة المحرق يصفع وجهه وسيظل تائهاً شارداً متعباً قلقاً حتى يعود من جديد إلى منهج الله عز وجل الذي جعله الله جل وعلا سبباً للسعادة في الدنيا والآخرة.
ثالثا :الإسلامُ وسعادةُ البشريةِ
والسؤال الآن.. هل حقق الإسلام السعادة من قبل؟ والجواب نعم.
فلقد حقق منهج الله في الأرض الأمن والأمان والسعة والرخاء والسعادة والاطمئنان لا للمسلمين الذى حولوا منهج الله إلى واقع عملى فحسب.. بل لليهود والنصارى الذين عاشوا تحت ظلال الحكم الإسلامي الوارفه.
فهذا يهوديٌ ُيسرق درعَ علّىِ – رضى الله عنه – وكان خليفةً للمسلمين وأميراً للمؤمنين فقاضاه إلى قاضيه شريح ولم يأمر علىُ باعتقاله أو بسجنه أو بقتله أو بأخذ درعه بالقوة.
ومَثُلَ علىّ مع اليهودي أمام القاضى المسلم ونادى القاضى على علىّ بكنيته قائلاً: يا أبا الحسن ، ونادى على اليهودي باسمه دون أن يكنيه، فغضب علىّ رضى الله عنه وقال للقاضى :إما أن تكنى الخصمين معاً أو تدع تكنيتهما معاً. ثم سأل شريحٌ أمير المؤمنين عن قضيته فقال على: الدرع درعى ولم أبع ولم أهب، فسأل شريحٌ اليهودي فيما قاله علىٌ فرد اليهودى بخبث ودهاء معهودين قائلاً: الدرع درعى وما أمير المؤمنين عندى بكاذب.
فيقول شريح لعلى: هل من بينة ؟
فقال علىّ صدقت يا شريخ: ما لي بينةٌ.
وكان موقفُ شريحٍ رائعاً كموقف أمير المؤمنين فلقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينة عند المدعى ، وهو أمير المؤمنين وأخذ اليهودي الدرع ومضى وهو يحدث نفسه قائلا: أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه فيقضى عليه إنَّ هذه والله لأخلاق أنبياء ثم عاد فقال : يا أمير المؤمنين الدرع درعك سقطت من على بعيرك فأخذتها.
وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فيرد عليه عَلِىّ قائلاً : أما وقد أسلمت فهي هدية منى لك.. الله أكبر.
وهذا قبطى يسبق ابن عمرو بن العاص في مصر ويغضبُ ابنُ والى مصر أن سبقه القبطى فضربه ابنُ عمرو ضربة على رأسه وهو يقول خذها وأنا ابنُ الأكرمين فرحل والد هذا القبطى إلى واحة العدل والأمن والأمان إلى المدينة المنورة حيث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذى استدعى عمرو وولدَه فوراً ويأمر عمرُ بالقصاص وأعطى القبطى عصاه وهو يقول له اضرب ابنَ الأكرمين ثم التفت إلى عمرو وقال قولتَه الخالدة يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ً؟
ففي ظل الإسلام عاش اليهود والنصارى في أمن وأمان وها هو التاريخُ مفتوحةٌ صفحاتهُ لمن أراد أن يتعرف على الحق ولقد حقق منهجُ الله الرخاء الاقتصادي بوضع نظام اقتصادى عادل يربط الغنى بالفقير ويقضى على الجشع والشح والطمع ، حتى جاء يوم أرسل فيه خليفة المسلمين عمرُ بنُ عبد لعزيز منادياً يبحث عن الفقراء ليغنيهم وعن المحتاجين ليواسيهم وعن الشباب العاجز عن الباءة ليزوجَه.
والإسلام الذي حقق هذا كفيل بتحقيقه اليوم لمن يأوون إلى رحابه ويعيشون في ظلاله.